مـعــركـة الجـنــوب الســـوري ..
بـدايـتـهـا بـهـجـة ونـهـايـتـهـا لعـنــة
من تعريفات الحرب أنها صراعٌ يدور على جبهةٍ أو أكثر وقد تتكوّن من معركة أو عدّة معارك وعلى جبهات متعددة.
في سورية ومنذ بداية الأزمة كان واضحاً أنّ أقطاب الهجمة على سورية يسعون إلى تحقيق هدفهم بأقصى سرعة ممكنة، وكان مطلوباً إسقاط النظام السياسي بموازة تفكيك الجيش السوري وإنهائه كقوّة عسكرية لإدخال سورية في مرحلة سياسية جديدة ترتكز على نظام سياسي جديد يقدّم للصهاينة ولـ " إسرائيل " ما تبتغيه من أمنٍ وسلام على حساب المقدرات السورية شعباً ودولةً ومؤسسات.
ولم يتطابق حساب الحقل على حساب البيدر، وكان أن دخلت سورية في السنة الرابعة من المواجهة مع فارق أنّ عشرات المعارك قد تمّ كسبها لصالح الدولة السورية في مواجهة أكثر من 250 ألف مقاتل لأكثرمن 1500 فصيل مسلح منتشرة على أغلب الجبهات السورية.
إنّ ما يجري في الجنوب السوري لا يمكن عزله عمّا يجري في كامل سورية، ففي حين تفضّل تركيا الرهان في الشمال السوري على داعش، يبدو أنّ الأردن و" إسرائيل " تراهنان على جبهة النصرة وبقايا " الجيش السوري الحر "، ولكلا الطرفين تركيا في الشمال والأردن و" إسرائيل " في الجنوب نفس الهدف وهو إقامة مناطق عازلة حدودية مع اختلاف الغايات وأساليب العمل في كلا المنطقتين.
وما يجري في الجنوب هو تماهي مصالح بين " إسرائيل " والجماعات المسلّحة وعلى رأسها " جبهة نصرة إسرائيل " وهي التسمية الأكثر ملاءمةً مع واقع الحال، فلم يعد خافياً على أحد الدعم الناري المباشر الذي تقدمه القوات الصهيونية لجبهة النصرة في كل عملية هجومية تنفذها، ولا الكم الكبير من الأسلحة النوعية ولا الدعم اللوجستي والالكتروني من تشويش وأنظمة قيادة وسيطرة وإدارة للمعركة بشكل مباشر من غرفة العمليات المشتركة في الأردن، والتي يتفرع عنها أكثر من غرفة عمليات ميدانية بإدراة إسرائيلية مباشرة.
وفي موازاة ما يجري في الجنوب السوري يجب ألّا يغيب عن بالنا أنّ الجيش السوري قد شارف على حسم أغلب المعارك الكبرى في أرياف دمشق وحلب وحماه وحمص، وهو في مرحلة إنهاء معركة ريف دمشق وتحديداً في الغوطة الشرقية التي تمثل العبء الأساسي بعد أن حسم معارك القلمون ودفع بمقاتلي الجماعات المسلّحة إلى أعالي الجرود ليصبحوا فريسة الطوق القاتل، الصقيع وضربات الجيش السوري وحزب الله.
الأمر نفسه بات ينطبق على ريف حماه وريف حمص وكذلك حلب التي يتجه الوضع فيها لمصلحة الجيش السوري باعتراف كل المراقبين، وهذا ما دعا المبعوث الدولي ديميستورا للمجيء إلى دمشق وتقديم إقتراح بتجميد المعارك في حلب وهو ما لاقاه الرئيس الأسد بإيجابية دون البت بالإقتراح، تاركاً الأمر للدراسة وهو تدبير لا يُلزم الدولة السورية ولا يصنّف في إطار التعهدات.
بالعودة إلى ما يجري في الجنوب السوري فإنّ عملية إعادة الإنتشار التي نفّذتها وحدات الجيش السوري في الشيخ مسكين ونوى هي التدبير الأسلم للخروج من مرحلة الإستنزاف والقتال المتداخل، والدخول في مرحلة تثبيت نقاط الإرتكاز على قاعدة قتال الجبهات المرتكز على أنساق متتالية في أرض معدّة مسبقاً لاحتواء زحف مدرع كبير ليس بوسع الجماعات المسلحة القيام به لا في المرحلة الحالية ولا في المرحلة القادمة، وما قامت به وحدات الجيش السوري لا يتطابق مع التطبيل الإعلامي الذي رافق عملية إعادة الإنتشار ولا تصوير مجموعة التلال التي سيطرت عليها الجماعات المسلحة البارحة وقبلها على امتداد الشهور السابقة على أنها تلك القمم التي يمكن من خلالها حسم معركة دمشق، وحتى لا يبقى الأمر في سياق التهويل فإنّ هذه التلال لا تبلغ مساحة أكبرها 2 كلم مربع وهي إن كانت تكتسب أهمية في مواجهة الجيش الصهيوني كمواقع إستطلاع ومراقبة إلكترونية فإنها لا تقدم للجماعات المسلحة ميزات إضافية لتأمين السيطرة، فهذه التلال هي كناية عن مرتفعات صغيرة في مساحة من المنبسطات لن تكون قادرة على مواجهة زحف مدرع كبير في سياق أي معركة هجوم مضاد لاحقة يقوم بها الجيش السوري، مع الإشارة إلى أنّ الجيش السوري يمتلك عند حدود المنطقة التي أعادت وحداته الإنتشار فيها وتحديداً عند بلدة إزرع لواءً كاملاً مدعوماً بفوج مدفعية على عكس ما كان حاصلاً في اللواء 112 وكتبية الحجاجيات وتل حرفوش وتل حمد في محيط نوى والشيخ مسكين حيث لم يتجاوز عدد عناصر الجيش في هذه النقاط تعداد كتيبة، أي ما يقارب الـ 45 ضابط وجندي.
وأنا في هذا العرض لا استهدف أبداً أمراً يخالف الواقع ويمكن للبعض أن يصنفه في إطار رفع المعنويات وشد العزائم، بقدر ما أحاول نقل صورة تقارب الواقع دون الدخول في تفاصيل ميدانية قد تندرج في سياق لا يخدم المرحلة اللاحقة من المعركة.
وما جرى في الشيخ مسكين ونوى ليس مفصولاً عن ما جرى في عرنة وبيت جن، فكما تهدف معركة منطقة درعا إلى تثبيت مواقع تمكن الجماعات المسلحة من السيطرة على مفاصل الزحف إلى دمشق وتطويقها، تستهدف معركة عرنة وضع الجماعات المسلحة في المواجهة المباشرة مع حزب الله من خلال شبعا والهبارية والإلتفاف على دمشق من وديان عيحا وكفرقوق ودير العشائر بهدف إحداث خرق في جبهات قطنة – يعفور، التي تعتبر قاعدة خلفية في الوقت الحاضر والتي تهدف الجماعات المسلحة بدعم إسرائيلي مباشر إلى تحويلها لجبهات تماس على تخوم دمشق، وهذا ما يُظهر البعد الإستراتيجي في التخطيط والذي تتولاه " إسرائيل " بشكلٍ أساسي.
لا أحد يستطيع منع الجماعات المسلحة من التطبيل والتزمير لما حصل في نوى والشيخ مسكين، هذه الجماعات التي تستطيع تحقيق إنتصارات تكتيكية في جبهات متداخلة ولكنها عجزت حتى الآن عن إبقاء سيطرتها على المناطق التي تحتلها، وحتى لا ننسى ما جرى في كسب وما رافق هذه المعركة من تطبيل وكيف انتهت هذه المعركة التي تُعتبر أصعب بكثير من معركة الجنوب السوري لصالح الجيش السوري، وكذلك الأمر في أكثر من جبهة حيث تعيش الجماعات المسلحة مرحلة التفكك والإنهيار.
على عكس المعارك الأخرى فإنّ نهاية معركة الجنوب السوري التي لم تبدأ بعد ستكون وبالاً ولعنة على " إسرائيل " وأتباعها لتشابه الأمر مع ما حصل في الجنوب اللبناني والتي أدّت إلى خروج مذل للصهاينة.
معركة الجنوب السوري قد تكون آخر المعارك التي ستحسم في سورية لمجموعة كبيرة من الإعتبارات، ولكنها ستكون المعركة الأسرع في الحسم عندما يقرر الجيش السوري أمر الحسم.
حالياً سيعمد الجيش السوري إلى تثبيت نقاط ارتكازه التي ستمكنه من امتصاص وتدمير أية هجمات تقوم بها الجماعات المسلّحة من القنيطرة إلى الحدود مع الأردن، وقد نشهد بعض أشكال إعادة التموضع والإنتشار بحسب الضرورات، ولكننا يجب أن نعرف أنّ ما يحصل هو معركة موضعية على جبهة غير مترابطة وما حققته الجماعات المسلحة يندرج ضمن تسمية النصر التكتيكي وليس الجبهوي، وما سيقرر نتيجة الحرب هو سلسلة المعارك التي ستشهدها جبهة الجنوب السوري، ولا نعرف إذا ما كانت القيادة السورية ستقرر تغيير أولوياتها في تصنيف المعارك وأهميتها وتدفع باحتياطها الإستراتيجي من جحافل المدرعات الحديثة وسلاح الصواريخ التكتيكي لحسم معركة الجنوب السوري.
في كل الأحوال نحن أمام مشهد معقّد جداً تتداخل فيه مصالح القوى الإقليمية والدولية، ووحده الجيش السوري قادر على رسم آفاق المعركة القادمة من خلال تقدير الموقف واتخاذ القرار، فأية تهديدات جدية لدمشق رغم عدم وجودها حالياً الا في أحلام المسلحين ومشغّليهم سيجعلنا أمام مشهد جديد مختلف تماماً، وقد يكون هذا الكلام غير شعبي في هذه المرحلة إلّا أنه الكلام الأكثر واقعيةً وعقلانيةً، أقلّه من وجهة نظري كوني كاتب هذه الكلمات.
ضابط سابق ( خريج الأكاديمية العسكرية السوفياتية )
عمر معربوني - سـلاب نـيـوز