مصداقـية الأديب حـنا مينـة في معـاناته المـبكرة

مصداقية الأديب حنا مينة في معاناته المبكرة

مع ولادة الإنسان يولد قدره .. وفيما بين الظل والنور تتشابة الأقدار وتتشابك الأفعال .. وقد يتساوى العظماء بالبلهاء عبر ظروف حياتية هشّة ومعطيات ضيقة لا موضوعيّة وتناقضات شتى.

لكن يبقى عزاؤنا, أن هؤلاء العظماء تجعل منهم ظروفهم استثناءً, فما يختزنوه من ضمير حيّ ومقدرة على ابتكار الكلمة الصادقة, تُلقي على كاهلهم أعباء الإنسانية وتعلق على صُدورهم أوسمة الإصلاح بالوقوف في وجه الظلم والتسيّب واللاوعي لإثبات الذات وتأكيد الوجود, فالصدق هو سيد الأحكام.

وفي هذا المضمار نجد أنّ المصداقية تتمحور حول اختلاف المعاناة لدى الأدباء, نظرًا للظروف والبيئة وكذلك الزمان والمكان وإلى ما هنالك من مؤثّرات عديدة .. بالتالي تتمايز الشخصيات عبر اختيار الحدث .. وتتلون المعاني وتتأرجح المشاعر في حجم المعاناة والألم.

وتجدر بنا الإشارة إلى مؤشرات المصداقية في أعمال الأديب الكبير حنا مينة, لما لها من ارتباط وثيق بمعاناته المبكرة, فطفولته ملحمة حزينة تفيض بالقهر والآلام التي طالما عبثت بمشاعره المرهفة وتركت أثراً بليغاً يحزّ في نفسه ويعزّ عليه نسيانه.

ولدى تفاقم إحساسه بالظلم, كان لابدّ له من موقف مسؤول أدواته في ذلك القلم واللّسان, هذا من ناحية .. ومن ناحية ثانية فأنت مدعوّ معه للسفر .. مُغادر واقعك عبر سطوره وزحام الكلمات في رواياته, لتعيش الحدث بكلّ أبعاده وتفصيلاته, فتعابيرهُ البديعة ووصفه الدقيق والبعيد عن المبالغة, يسمح له بالتسلّل ليحتلّ موقعاً في قلبك وعقلك, فتستفيض بك المشاعر.

تنفعل وتعاني .. تتوتّر وتتأزّم .. وقدّ تستمتع أو تثور .. وتنتشي ما أن تبكي لتعود إلى الواقع.

هو حسّاس بإفراط, ذكي في التحليل والتمحيص .. تفصيليّ إلى حدٍّ كبيرٍ وهذا ما يوهمك بمعايشة الحدث وكأنّك حقيقة فيه.

ومن ناحية أخرى ألا وهي الأهم .. فقد أحبَّ حنا مينا شخصيات رواياته وهي مصبّ الظلم النهائي ومنشأ الوله الإنساني لديه ومنها انبثق أدبه خطوطاً عريضة ومواقف ثورية ملتزمة وأعمالاً أدبيّةً متميّزة, تَبلور الحدث فيها جليّاً .. مؤثراً, فلقد أحبّ الناس تلك الشخصيّات الآدميّة من حوله, وهي التي شاركته البؤس والشّقاء, فلم يتحدّث عن نفسه إلاّ من خلالها بعيداً عن الوصوليّة والدّوران في فلك الأنا والترفّع, لا بل رفعها على حسابه وقدّس عطاءاتها وتمثل بها قدوة له تفانت في العطاء إلى حدٍّ تجاوزت به كلّ الحدود.

إنه كاتب وجداني, صادق وقد دلت عليه الشخصيّات الإيجابيّة التي رسمها في رواياته فأبرزت هويته ومصداقيته بأمانة.

سوزي واكيم

( مجلّة الإذاعة والتلفزيون - فنون )