نماذج من قصصهاامرأة من خزف
« إلى صديقة من الطفولة تمردت، وما عادت امرأة من خزف ».
أنا هنا أخونك، أخونك يا زوجي، عفواً بل يا سيدي، يا سيد القصر الجميل، الغارق بالحرير، المتماوج بالرياش والعبير. قصرك الطافح بألوان الترف. أنا هنا أخونك، أصفع اسمك الأرستقراطي النبيل. أنهش البهجة التي غرستها في المجتمع الراقي، بهجة المرأة من خزف. ألطخ لوحة حياتك المتناسقة البديعة ذات الظلال والألوان. أشوه حياتك المضيئة بالهناء والمتعة. أدوس نجوم اللآلئ والماس التي زرعتها حول عنقي الجميل، أقتلع بوحشية حجارة الفسيفساء من صفحة حياتك التعيسة وأذروها كمخبولة للريح، للضياع والتمزق. أكاد أرى الضياء المتعالي في عينيك يتهاوى كشهاب، أكاد أرى شفتيك الدقيقتين المنضمتين في ترفع، تتلويان بألم باهت أخضر، وها هما يداك تتشنجان حول انتقام يائس مرير.
الكؤوس التي تشرب لا تهدئ من ثورتك، النساء اللائي تشتريهن لا يطفئن نار الحقد على امرأة جاحدة هي أنا. الأغاني والملاهي والحانات لا تعيدك إلى فراشك إلا وأنت حطام رجل جريح. كنوزك، أموالك، المجوهرات التي تبهر العيون جمد فيها السحر وخبا منها البريق. أسطورة الخرافة القديمة كانت تحيل التراب إلى ذهب، وأسطورتنا نحن تعيد الذهب إلى التراب، التراب. وأغدو أنا إنسانة سميكة من تراب. آنية من طين حقيرة في عينك، أيها الفارس الجميل النبيل.
أنا أخونك، نعم، ومع من ؟ رسام لا يطال آفاقك، طحلب على حوافي بحر، نبتة أمام دوح كبير، أنا معه الآن يا زوجي المترفع العظيم. أنا معه أعيش كياني، أصنع وجودي كإله صغير. أعيش لأحطم المرأة الخزفية التي صنعتها أنت في عشر من السنين. أحطم الخزف وأطحنه بآلامي لأعيده إلى تراب. تراب حقيقي لا زيف فيه ولا خداع. أنا الآن قوة عجيبة خارقة تصنع ببسالة أقدارها لتعيش من جديد. من يستطيع مثلي أن يحطم القمقم لينطلق المارد ؟
في ليلة عاصفة من هذا الشتاء فررت منك، كان المطر، وبكت فوق كتفي غيمة حنون، ولفتني ريح قوية ثم حملتني ألف ذراع مجهولة إليه، وها أنا الآن معه، مخلوقة جديدة، ضاعت امرأتك الخزفية يا سيدي، تلاشت في صاعقة الليلة الشتوية. ضاعت من حياتك لتتألق في عالم صغير منسي. هل تذكر أسطورة العذراء الجميلة التي استحالت إلى حجر بفعل سحر مشؤوم ثم أفاقت للمسات الحب الحقيقي بعد قرون؟ أنا تلك الغافية على أحلام ودموع حجرية، وأنت ذلك السحر. أما هو فقد كان ـ ويا لعذابك - اللمسة العجيبة تمنح للحياة النائمة دفقة الوجود.
أنا هنا أعيش بأصالتي، بحقيقتي، كطفلة ترعش لأولى نبضات الحياة. ألجأ إلى هذا المكان مثل قطة ضالة. هذا المكان في نظرك حقير يا سيدي، يا سيد القصر المنيف. لا هو مسكن. ولا هو مرسم، ولا هو بيت بادي المعالم والحدود. لكنه الآن عالمي كله، جنة نفسي العطشى، وآفاق عمري الضائع.
أنا هنا لا أغرق في الريش والحرير، لا تتنزه عيناي في حدائق الستائر والطنافس، لا تلون حواسي أبهاء الضياء والرواء، هنا، لا تدغدغ أناملي وسائد المخمل الناعم وتلفها في نشوة ملوكية. أنا هنا لا أضحك ضحكات من البللور تضيع في الغرف الوسيعة الأنيقة. إنما أنا هنا أعيش حقيقتي، امرأة على الأرض العراء، بين البشر الصادقين البسطاء الذين أحببتهم أنا وكرهتهم أنت، أحسست بهم في نبضاتي الخفية وجحدتهم أنت وأنكرتهم.
أظافري الوردية يا سيدي أتلفتها الأعمال التي تأنف منها أنت وتسميها أعمال خادمات، يداي أصبحتا جافتين كيدي قروية.
جسدي لم يعد يرف بعطر الزنبق والياسمين. وجهي لم يعد وجه الدمية الخزفية الملونة التي عرفت بل أشبه بوجه عاملة بسيطة من بلادي. حقيبتي لم تعد تزغرد بأوراق النقد الكثيرة بل هي تلوب حول الدراهم لتداري بساطة الحال وقلة المورد، ومع هذا، فأنا سعيدة، سعيدة بكل ذرة من كياني.
هل تذكر يا سيد القصر الشامخ الكبير يوم اشتريت آنية الخزف الجميل ؟
لم تكن إذ ذاك خزفاً، بل كانت عجينة من حس وشعور. لو لامستها يدك بحنان حقيقي لارتعشت من ألم ونار. كنت لم أفتح عيني بعد على أكثر من سبعة عشر ربيعاً، فراشة في حقل رؤى ونجوم، بساتين الورد البكر كانت تزرع جسدي وقلبي غض كطفل. اشتريتني يومذاك كما اشتريت آنية الزهور النفيسة وكما اشتريت كل شيء بهيج لحفلة الزفاف الرائعة وبغباء أبله استسلمت لك، أنت الخبير بالحياة وبالنساء وغير النساء. أستكنت إلى دوحك كشجرة لبلاب ضعيفة، التصقت بك أتلهف إلى حب حقيقي، وسعادة حقيقية، فما أعطيتني إلا الزيف. لم أكن أرى الوجود إلا من خلالك، ولا أحس بهجة اللحظات إلا بجوارك، ألازمك مثل ظل حبيس قدره، كنت ألهث وراء رغباتك وأنسى نفسي، كل نفسي، حتى استحالت جنتي إلى سراب، وحياتي إلى عذاب، حنطتني في تابوت إرادتك. جمدتني في قوالب رغباتك، طبعت على وجهي وشم عبوديتي، وشم الجارية تتبع في ذلك سيدها.
هل تذكر ليلة زواجنا ؟ ليلة من ألف ليلة، كنت فيها الفارس الثري الجميل كأمير من الأساطير، تحرق لي البخور، تغمرني بكل ما هو ساحر. كانت تلك الليلة أول تجربة لقالب الخزاف الكبير. أمرتني فأطعت، عبست لي فبكيت، مسحت على رأسي فضحكت. طالبتني بما تحب فأسقطت كل ما لم يعجبك من تصرفاتي وأبديت ما تحب، كما تحب. حتى ألوان ثيابي، تزاويق زينتي، أشيائي العزيزة الصغيرة كلها ذبحتها تحت أقدام رغبتك وإرادتك وجلست أبكيها بحماقة طفل يحطم دميته.
هل تذكر يوم خرجنا لأول مرة إلى المجتمع ( الراقي ) الذي تعبده وتذوب فيه ؟ كنت ترسم لي كل خطوة، وتهمس لي بكل كلمة، وتشدني إلى كل بادرة. وأنا بين يديك أتألم. يقطر قلبي دماً، وتنزف حواسي لوعة. وكنت أتساءل : هل تُراني سأعيش أبداً كما تريدني ؟ هل أنا لولب ؟ هل حياتي هي هذه القشور من الضياع والوهم ؟ حفرت لنا يا سيدي هوة من التباعد ظلت تزداد على الأيام عمقاً واتساعاً حتى غدت وادياً لا قرار له ولا مدى، وادٍ يفصل بيننا كقدر، رغم ألوان الترف ومباهج القصور، واد يسكنه وحش يفغر فاه لابتلاع كل شيء حتى رابطة زواجنا.
ولقد مللت، صدقني، مللت الأندية زجاجية الألوان، مللت الأحاديث وقع حروف لا مغزى لها، مللت البيوت الفخمة والسيارات علباً مدهونة بالرياء. مللت ثياب الطاووس وزهو المال والرفعة. مللت الليالي تتوزعها بهجات ضئيلة وعواطف التفاهة، مللت الوجوه الملونة بالرياء، مللت كل شيء.
ويوم الحفلة المقنعة في النادي الكبير. هل يمكن أن ننسى ذلك اليوم ؟ كانت حفلة رائعة كما تقول دائماً عن الحفلات، وكنت أحس أن يداً قاسية تعصر قلبي وعنقي معاً، ولم تكن لي رغبة في أن أرى مخلوقاً ما، وبينما تلح علي وتختار لي أجمل الثياب وأبدع الحلي كنت أحس كأنني أقبل على انفتاح سر ما. سر رهيب كالموت، كالحياة. ولا أدري هل هذا الشعور المسبق توضح لي لأنني كنت أكره حياتي أم لأن حياة جديدة ستفتح ذارعيها لي. لقد بكيت، وما أردت أن أضع قناعاً كما أردت لي أن أفعل. هل أنا بحاجة إلى مزيد من الأقنعة؟ أنا لست أنا، وهؤلاء الناس من حولي لا أدري في الواقع من هم ؟ حتى أنت لم أر مرة أعماقك، ولا رسوت إلى قاع نفسك، ولا عرفت من تكون.
وأطعتك، ووضعت قناع امرأة صينية من الأساطير تناسب جسدي الصغير، جسد الدمية من خزف. وفي الحفل، كنت كمن يغيب في تيار لا قرار له، الوجوه تسخر مني كوجوه الشياطين، الأذرع ترقص من حولي رقصات جهنمية كإلهات الشر بألف ذراع. كان الهواء يخنق أنفاسي والعرق ينضح من صدري ووجهي وظهري، رأسي يدور كأنني في دوامة، وعندما ناديتني أن أرقص معك لم أعرفك بين الوجوه، وكنت تضحك لاهياً وأنا أضحك وأبكي معاً بطريقة هستيرية مرضية. أنت في زي مصارع ثيران من إسبانيا، وأنا أميرة مقنعة من قلب الصين، يا للمهزلة. هل تريد تناقضاً وتنافراً أكثر من هذا؟ وسحبتني من يدي بعنف لكني تداعيت، هويت كأنني مخنوقة ألتمس بعض هواء يندي مشاعري الملتهبة، أحسست أن ذراعي مصلوبتان وأن قدمي قطعتان من حديد، في هذه اللحظة التقيته، كان أمامي مثل منقذ، بكيت بين يديه، كأنما كان ينتظرني منذ دهور، وكأن لقاءنا أمر حتمي لا مفر منه. استكنت إليه، هدأت، مسح دمعتي وسألني :
- أليست سيدتي مسرورة في هذه الحفلة ؟
- مسرورة! طبعاً، لا، نعم، عفواً، جئت أشارك زوجي سهرته. وأنت ؟
- جئت أرسم صورة لأميرة الأساطير.
- أميرة الأساطير؟ لكأنك جئت ترسم جحيم الكوميديا الإلهية لدانتي أو مشاهد ملحمة هوميروس.
وضحك، وتقاربنا، ونزعنا أقنعتنا، وغرق واحدنا في عيني الآخر، وواجهنا معاً مصيرنا.
- سوف أرسمك كما رأيتك، هل تسمحين ؟
أنت أجمل ألف مرة من أميرة الصين، أنت زهرة لوتس على ضفاف بحيرة مجهولة.
- شكراً لك.
متى تأتين لأخذ الصورة ؟
- في مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم.
- ما أبعد الموعد، على أي حال هذا عنوان المرسم الصغير.
والتقينا من أجل الصورة.
ويوم جئت إلى المرسم أول مرة لم أكن أخونك يا زوجي، كنت أحتمل، وأعاني، وأجد لحياتي العزاء في الصبر المر. ولكنني هنا، في معرض الرسوم الكبير رأيت الحقيقة، كان بين رسومه رائعاً أسطورياً قوياً مثل إله. أسقط لي أقنعة قلبي، نزع عنها القشور. لما نظرت إلى الصورة لم أجد شيئاً اسمه صورتي. غضبت، شعرت أنه يسخر مني ويهزأ من عاطفتي. ضحك، وأشار إلى لوحة تمثل دمية خزفية وسط سرب من الغربان
فوق قاع دموي، وقال :
- هذه أنت ؟
واعتصر الألم قلبي، وصفع كبريائي.
- أنا ؟
- نعم أنت، أنت دمية خزفية، ثمينة ونادرة الوجود لكنها صامتة باردة خرساء. أنت، ما أنت إلا هذه التحفة الجامدة، هؤلاء هم ناسك، وهذا عالمك.
تلاشيت، صعقت، وخرجت باكية وأنا أصرخ :
- أكرهك، أنا أكرهك، بكل قواي.
- بل حقيقتك تكرهين.
ولملمت أذيال خيبتي وقررت ألا أراه، وألا أعود إليه، وأن أنزعه من خبايا نفسي. لكني لم أستطع، عدت إليه، مرة ثانية وثالثة، وإلى الأبد. عدت لأحطم تمثال الخزف، لأدوس أقنعتي، وأجلو حقيقتي، وأنفض الغبار عن مشاعري. عدت أستبدل زجاج الخزف بعجينة من ماء وطين. قد تكون أصيص ريحان بسيط ولكنها آنية دون زيف لنبتة قوية أمام الشمس والهواء.
وها أنا الآن، معه هنا أبتسم وراء نافذة صغيرة، في مرسم صغير، بعد أن هجرتك، هجرت القصر الكبير، والثراء الكبير.
الصورة العارية - دمشق 1960
السماء لوحة سوداء لامعة، تعطي ذخائر غامضة، في قلبي إيمان بمعجزة ما، هذه النجوم التي ترقص دون أذرع تشدها، كم ألفت منظرها في طفولتي الموزعة وأنا أسير مرفوعة الرأس في أزقة دمشق القديمة. كانت هذه النجوم في صغري تعابثني، تغمزني، ثم تهرب مني وراء الجدران المهترئة والمآذن الضارعة.
الآن عدت من أوروبا إلى الجو الذي كان يكثف وجودي ويعطيه مذاقاً حاداً. لم يصدق أحد أنني وأنا الرسامة التي قضيت سنين طويلة في روما، سأعيش في هذا الحي البسيط.
أصبحت رسامة لأنني أحببت الفن منذ أمد لا أذكره. اهتمامات طفولتي كانت عدوانية تجاه زوجة أبي. كنت أرسمها على جدران بيتنا العتيق بألف وضع ممسوخ، وكان كل من يرى رسومي يضحك لأنها تشبهها ولو كانت على شكل بقرة أو كلب، وقال لي أستاذ علم النفس فيما بعد إنني كنت أفرغ في الرسم آلامي إلا أنني كنت أعرف تماماً أن آلامي لم تفرغ وإن في لا شعوري أشباحاً سوداء، وكان يخيل لي دائماً أن العالم من حولي جدران فارغة أريد أن أرسم فوقها وأن أحول كل شيء إلى كاريكاتير عابث ساخر.
منذ أمد طويل نبذت معاني الحياة الشفافة الحزينة وحطمت قيم الروح. لم أندم على ذلك. روما جرفتني حيث كنت أدرس الفنون الجميلة إلى أن لا أقدس شيئاً كما أقدس العري والرغبة الحمقاء والهزء.
في الشارع الآن أسير مثل عجل تائه. شعور مبهم يتسلط علي من رأسي إلى أخمص قدمي هو أني أساق إلى الذبح. أشعر بخيبة ما تتسلل مع الهواء الذي أستنشقه بعسر، الناس من حولي يعيشون عالماً منفصلاً عني. كيف لي أن أحيا بينهم؟ يخيل إلي أنني لا أفهم ما يقولون، إنهم يمضون ويتركونني وحيدة مع خيبتي، والسماء ذات اللون الأسود والرسوم التي تنبع من حولي مثل جنيات أسطورية كانت محبوسة في بئر.
عما قليل سينصهر عالم من هذا الصمت. عالم سوف أخلقه أنا، وسوف يلتهمني. ليتني أستطيع ذلك في هذا المحيط الأخرس الحزين. وأنظر إلى صدري يرتعش تحت ثوب رمادي فاتح وأحس أن في هذا اللون ضياعاً وأنه يمتص الأشعة فتموت فيه أو تتحول إلى فراغ.
أما قصة البيت الذي استأجرته اليوم فهي تطن في رأسي كنحلة ضالة. عزمت على أن أغامر بالنقود القليلة التي بقيت معي كي أرسم عري الحياة.
وهذه المدينة، مدينتي عنيفة الألوان والطعوم ترصدني بألوف الموضوعات النابضة والساخرة بفجيعة، رؤوس الصبيان الحليقة، مثل نبات اليقطين الرخو، نظرات النساء التي ذبحها الذعر من سنين بعيدة، عيون الصغار وهم يمتصون أثداء أمهاتهم المهترئة أمام محكمة الشرع وعند أقدام الباصات، الباعة المتجولون وماسحو الأحذية، لوحات الإعلانات التي تعكس الزيف، أضواء النيون الشاحبة التي تهتز بشماتة فوق صور الممثلات العارية، كل هذا سوف أرسمه وألفه في خطوط جريئة عبر لوحاتي، حتى الغربان والعشب المبلل بالندى وأوراق الخس التي ارتخت تحت الأشعة، حتى ألوان التراب الصاخبة من بنفسجية وحمراء، وحتى أشكال الصخور، كل هذا كان يلهب خيالي وأنا في روما ولسوف أسوقه خلال لوحاتي المهووسة.
قلقي الغامض ينمو. أحس فراغاً في نفسي يتحول تدريجياً إلى عذاب. يحتمل أنني جائعة، كم أشعر بالراحة عندما آكل في فترات التعاسة. لم لا أتناول الطعام في البيت الذي استأجرته؟ لقد أعطتني المرأة صاحبته المفتاح واطمأنت إلي وقالت إنني سأجد كل شيء أحتاج إليه فهي لم تبرح الدار إلا منذ أسبوع عندما مات زوجها ميتة غامضة مفاجئة. لعلي سأجد أنفاساً بشرية أيضاً. المرأة لا تحرص على شيء في البيت ما عدا صورة زوجها.
كل ما في البيت مباح لي ما دمت أدفع الثمن.
وأدير المفتاح، يصر الباب بأنين، تصدمني رائحة غبار عنيفة، البيت مؤثث على الطراز الشرقي بذوق غربي، هنا في غرفة الضيوف تقليد مزيف ممسوخ لطراز لويس الخامس عشر، تشوه بهجته كالعين المفقوءة بعض التحف الدمشقية. في غرفة الجلوس انسجام مريح وستائر من مخمل ذات لون غامق. مكتبة مليئة، وكرسي من خشب الجوز مثل رجل مهيب، في زاوية غرفة الطعام بقايا فاكهة جفت بأطباق مفضضة.
أدور في البيت، أين الصورة ؟ لا أراها في المكان الذي حددته المرأة ويخيل إلي أنني لمحتها هنا بالأمس لما رأيت البيت لأول مرة. هناك خطوط سوداء قد وضعت لمسات حادة مكان الصورة المنزوعة. أذكر خيالاً غامضاً لصورة ولكن من العبث أن أتذكر شيئاً من معالمها.
الفزع يتفرع في نفسي. لاشك أن المرأة على يقين من أن الصورة في مكانها. لسوف تروع لفقدها وسأكون مجرمة لو فجعتها بأعز ما عندها. أحس بحيرتي وأنني سجينة عذاب لا ينتهي. خطاي تضطرب في أرجاء البيت. تلمع فكرة كالنجم في ذهني : لابد أن أرسم لها صورة أخرى. أمامي ترقص الشوارع ملتهبة الخطوط وتضج صور الصبيان ذوي الرؤوس التي تشبه نبات اليقطين ويهتز كل شيء بحمى بائسة.
هذا الرجل الذي لم أعرفه قط كيف سأرسمه ؟ أدور في البيت مثل عمياء تبحث عن طريق ضاع. ألهث وراء ومضة انطفأت. الصورة كانت تلتهم الحائط كله فلابد أن الرجل كان عملاقاً. ألمس الجدار. الإطار كان ثخيناً حتى ترك هذه الطبقة الكثيفة من الغبار. هل يمكن ألا يكون الرجل قاسياً؟ وإلا لماذا اختار مثل هذه المواد الجافة ليؤطر بها رسمه ؟ يحز في داخلي أن أجد الرقة والوداعة في هذا الركن الذي كان معداً لجلوسه. إن في أريكته طراوة غريبة ومقعده الخاص طويل مريح يكاد يلتصق بالأرض.
أبعثر أشياءه بنزق، أمسك الغليون المحشو بتبغ فاخر، أشم فيه رائحة رجل ذواقة. أعبث بالأدراج وتتناثر أوراقه. تتملكني رغبة التجربة الكاملة. هل كان الرجل دميماً ؟ إن هذه الروائح الفاغمة تدل على عنف كما تدل على غنى نفسي رائع. وهذه السطور الزاخرة بعبادة الحرف والعاطفة لمن هي؟ هذه الرسائل لمن؟ المرأة زوجته تتمثل في ذهني : جميلة في الثلاثين ذات عينين هادئتين بلون البحر، لاشك أن عيني الرجل كانتا قاتمتي السواد واسعتي الحدق تشمل عيني المرأة فتذوب فيهما وإلا لما خلفت فيها هذا الجنوح المهزوز نحو الهروب والضعف. المرأة نحيلة العود ممطوطة الخطى، إن استسلامها العاجز لرجولته الطاغية كان يسحق ثورة شبابها الصامت.
شيئاً فشيئاً أخذت أستوحي من كل ذرة حولي عرقاً ينبض أصبه في خطوط لا تلبث أن تذوب فوق القماش وتلفني بصمت رهيب. صمت لم أقطعه إلا بالطعام أو بنوم متقطع مشوش. كنت أحس أن في داخلي غيمة تبكي وأن الحزن يجعلني غريبة عن كل شيء ما عدا هذه الألوان الصاخبة التي تفلت مني وتوشك أن تنفجر فوق اللوحة، أصبحت لا أحس إلا هذه الريشة التي تهتز بين أناملي وعيني بقوة قدر مجهول.
ماذا أفعل ؟ الساعات تذوب والزمن ينداح مثل حجر سقط في ماء ساكن.
هل أهرب ؟
أول ما بدأت الصورة تتكامل أطلت علي العينان ذات المحجرين الواسعين قاتمتين كعتمة غابات. إن فيهما أسراراً رهيبة. كانتا توجهاني حسب مشيئتهما. كل ما أملك من كلمات وحركات بل إشارات غدا أسطورة باهتة، فقد أصبح من الممكن أن أعيش بدونها في عالم خلاق مبدع. كل ضجيج الدنيا وصخبها وموسيقاها لا يقوى على أن يمس الوجود المغلف الأخرس الذي أحياه. أشعر الآن بحاجة إلى الاعتراف بأنني بدأت أحب الصورة. تعلقت بهوى شهواني وأنا أضع الخطوط الرخوة للشفتين الممتلئتين العربيدتين وكنت أحس رائحة لحم وخمر معتقة وأن رأسي تدور.
وفي اللحظة التي وضعت فيها أناملي لأمس الشفة. وأصبغها بلون النبيذ المائل إلى السواد ترتطم ساقي بركيزة اللوحة وأقع على الأرض. الدم يسيل من ذراعي التي كانت تلامس الفم الشقي ويمتزجان معاً.
أفاق قلقي مثل زوبعة من رغبة متفجرة، أنا أسيرة اللوحة، بل أسيرة الرجل، صابون الحلاقة بالعطر الفرنسي، المنشفة الخشنة، الصحف القديمة، علبة السجائر المصدفة، الخف المبطن بألوان قاتمة، بطاقات الدعوة للنادي العائلي، كل هذه الأشياء الصغيرة، أشيائه تنبض من عروقي حياة، تضيعني في دوامة عجيبة.
الصورة أمامي عارية مثل آلهة أولمبية متمردة. لم يبق إلا ضربات خفيفة وأنتهي منها. النظرة في زاوية العين حائرة. لمسة صغيرة إلى الناحية الأنسية تجعل الخير يزهر ويورق بل يتفتح كوردة هل أعطي الصورة هذا التعبير العاري ؟
ولكن لا، لابد أن شيطان ( فاوست ) يتحرك في أعماق الرجل وإلا لما ترك زوجته مفجوعة منكودة ولما غدر بي أنا أيضاً. كيف أعلم الحقيقة ؟
نبشت آخر ورقة في سلة المهملات وأنا يائسة والشوق يأكلني، هذه خطوط ممزقة لرسالة إلى امرأة أخرى غيرنا أنا وزوجته، شظايا الرسالة تنبض بحب ملتهب وتهديد بالموت، يا للمرأة المسكينة زوجته، كانت مخدوعة به وكانت تنام على حب جاحد.
البيت يردد صدى فارغاً حزيناً، هل كان موته انتحاراً أم جريمة أم عقاباً
أم إثماً ؟
ونمت الخطيئة أمامي مثل نبات استوائي بأذرع عجيبة، تلفني الخطيئة وأنا أنغرس في أرض رطبة، ثم تمتد نحو الصورة، تظلل العينين، وأعود فأنظر إليه وأفزع، لسوف أقتله أنا، الخائن، لسوف أمزق الصورة العارية
وأستريح منها.
عند المساء أغلقت بابي وتهالكت بإعياء فوق السرير، قذفتني أحلامي في لجة عميقة. رأيت الرجال الذين كانوا في حياتي. ناجي الرجل الوحيد الذي أحببته رأيته غارقاً مع الصورة العارية في ضباب بنفسجي، ناجي هجرني من أجل امرأة ساقطة وفجعت به، ولن أفجع بغيره مرة أخرى. كم تخيلت أنه مات في قلبي حتى رأيته مع الصورة العارية وكأننا مازلنا في المرسم الصغير في روما.
أسمع طرقاً خفيفاً على الباب كما لو أن عصفوراً ضالاً ينقر. أنهض متثاقلة ورأسي يدور. الصورة ما تزال إلى جانب سريري وعينان تلتهبان. المرأة صاحبة البيت تدخل كما لو أن ريحاً حملتها. تضيع نظرتها في أرجاء الغرفة. تبتسم مع شحوب مريع. كانت على وشك أن تتهالك عندما رأت الجدار فارغاً من الصورة. عيناها تغيمان في يأس مفجوع وهي تبحث. نظرتها تتأرجح مصعوقة ولا تلبث أن ترخي جفنيها وتسألني عن الصورة.
أطرافي تتنمل وتصبح باردة كالثلج، ببساطة مفتعلة أقول : الصورة سرقت قبل أن أستلم البيت، وأسكت. كأنما الزمن قد جمد فوق شفتي. هل أعطيها الصورة العارية أم أمزقها ؟ المرأة المذعورة لا تفهم ما أعنيه من أن الصورة سرقت.
ماذا سأفيد من الصورة العارية؟ لسوف تمزقني كما مزقني ناجي، لسوف تميتني نظراتها الخائنة، لسوف تلاحقني العينان الواسعتان الوحشيتان. لسوف تمتصني الشفتان العربيدتان، وأقول بصوت ميت :
- الصورة الأصلية سرقت يا سيدتي وإليك صورة رسمتها لك عوضاً عنها.
وأشير إلى الصورة. وتتسع حدقتا المرأة. تغدو عيناها كالزجاج البارد وتصيح:
- ليست صورة زوجي، آه، ولكنه هو. إنه هو كما عاش في أعماقي وأنا أجتر خيانته وعذابي.
وتسقط ركبتاها بإعياء، تمد يدها بضراعة نحو الصورة، وتنتحب بصوت مسموع، نظرتها تغيم وعضلات وجهها ترتعش وهي تقول:
- أواه، يا إلهي، ماذا ألمح؟ هاتان الدمعتان، لكأنني رأيتهما فوق صفحة وجهه الساكن يوم مات، لقد ندم، وأنا غفرت له.
وأنظر أنا بدهشة بالغة إلى الصورة. الصورة التي التصقت بي كنفسي. الصورة التي عريتها من كل نأمة خير، هل ما تقوله المرأة صحيح؟ هناك حقاً دمعتان، دمعتان لم تخطهما ريشتي أبداً وقد مسحتا الصورة بتعبير جديد، دمعتان واضحتان مثل منارتين فوق شاطىء مهجور.
الخاتمة
ليس أدب قمر كيلاني، إلا فراشة حرير، خرجت من شرنقة المجتمع الضيّق، بجهد ودأب، فانسلخت في المرّة الأولى، عن الجهل والعزلة، بشغف قراءتها وإرادتها، وعن شعورها بالدّونية وقلقها في المرّة الثانية، بالثقة والاحترام الذين استحقّتهما ممّن حولها، وعن التبعيّة في المرّة الثالثة، بإيمانها العميق بالحريّة، فنسجت حرير أفكارها مجاناً، وأهدَتْها لنساء لم يكن يدركن أنّ العلم أجمل ثوب يرتدينه، كي تفتح الحياة لهن أبوابها.
فقد نقل أدب قمر كيلاني المرأة من الأفق الضيق، إلى الرحابة، الثقة، العلم والعقل، ومن الانشغال بالهموم اليومية الذاتية، إلى الهم الوطني العام، لتصبح المرأة قادرة على اتخاذ قراراتها بنفسها. تمارس نضالها، إنسانيتها لبناء المجتمع وتجديده، ولو لم تكن قمر كيلاني، تلك الطفلة الموهوبة المجتهدة، الملتهمة للقراءة، لما استطاعت أن تكون مرآة للمرأة بكل أشكالها: المتمرّدة، الموظّفة، الخانعة، الخائنة للمظاهر والتّرف والوفية لروحها كما في قصة « امرأة من خزف »، الشابة، العجوز، الطالبة، الخادمة، المناضلة، المثقفة، المسيحية والمسلمة، العاهرة والقديسة، الصريحة واللعوب.
فوظيفة الأدب، ليست التهرّب من الواقع، بل في رؤية الممكن في الواقع. لقد صنعت قمر كيلاني من صور المرأة المختلفة، فسيفساء، يختلف حول ألوان أفعالها، الناظر، وتتباين وجهات النظر، وتختلف الآراء بين مؤيّد وناقد، ولكنّهم جميعاً، لابد وأن يقفوا متأمّلين، لتلك القطع النّزقة والهادئة، متسائلين عن قوّة تلك الأنامل التي استطاعت بصبر وجهد أن تعبّر بدقة عن مواقفها من الحياة، في زمن عاشت فيه النساء على هامش الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، فهل حظ المرأة بهذا العصر المنفتح سيكون أوفر، وهل ستخط المرأة اليوم في السماء، أسماء شبيهة بقوس قزح ؟